الرأي العام
رئيس مجلس الإدارةد. تامر قبودانرئيس التحريرخالد طاحونمدير التحريريوسف قبودانرئيس مجلس الإدارةد. تامر قبودانرئيس التحريرخالد طاحونمدير التحريريوسف قبودان
تفاصيل بوابة الاستثمار الأجنبي لوزارة الإسكان.. وطريقة التسجيل بهافوز الدكتور محمد حساني بعضوية مجلس إدارة وكالة الدواء الأفريقية«البترول» تهدي جهاز أشعة مقطعية للمستشفى الجامعي في الإسكندريةبعد انتشار خليه يعفن .. أهم الأسئلة حول حملة...بوريل: خطر التصعيد مازال قائما بين إيران وإسرائيلخبير علاقات دولية: لقاء وزير الخارجية مع نظيره الأيرلندي يعكس...انطلاق فعاليات مؤتمر الذكاء الاصطناعي التوليدي وأثره على الملكية الفكريةبوريل يدعو إلى خفض التوترات وتهدئة التصعيد بين إيران وإسرائيل5 قواعد للسماح للقطاع الخاص ببيع الكهرباءخلال 48 ساعة.. الداخلية تضبط قضايا غسيل أموال بقيمة مليار...ضربة قوية للتجار.. كيف أثرت حملة مقاطعة الأسماك على الأسواق...تفاصيل إطلاق قافلة طبية مجانية بسيدي حنيش وأبو مرقيق بمطروح...
مقالات

مصطفى أمين يكتب: أم كلثوم الأخرى

مصطفى أمين
مصطفى أمين

 

عرف الناس أم كلثوم، وأنا عرفت أم كلثوم الأخرى، عرفوا الأسطورة وعرفت الإنسانة! عرفوها بخيلة وعرفتها كريمة، عرفوها فوق المسرح والأضواء مسلطة عليها، وصوتها يملأ الدنيا متعة وهناء، وعرفتها فى غرفتها الصغيرة فى الطابق العلوى من بيتها منزوية فوق كنبة صغيرة تبكى فى صمت!

وتحدثت الدنيا كلها عن جريمة هدم فيلا أم كلثوم فى الزمالك، وأصبحت ألسنة الناس مشانق يعلق فيها ورثة أم كلثوم العاقون الذين باعوا فيلا أم كلثوم الخالدة! وقد يذهل الناس إذا عرفوا اليوم أن أم كلثوم لم تعتبر «فيلتها» هذه أثرًا تاريخيًا يجب أن تحافظ عليه الأجيال القادمة، بل الذى حدث أنها أخبرتنى أنها تريد هدم هذه الفيلا وبناء عمارة من عدة طوابق، وأخبرت الأستاذ أحمد عنانى، مدير شركة مصر للتأمين فى ذلك الوقت، عن رغبتها، وجاءها بالمهندس محمد رياض، مدير بلدية القاهرة فى ذلك الوقت، ووضع رسومات العمارة الجديدة.

وبدأت أم كلثوم تبحث فعلًا عن شقة تقيم فيها، واختارت أن تقيم فى شقة فى الزمالك تملكها ابنة عبدالفتاح يحيى باشا، رئيس الوزراء السابق، وبدأت مفاوضات استئجارها، وفجأة قامت ثورة ٢٣ يوليو، وبعد فترة قليلة ذاعت شائعات أن الثورة تفكر فى تأميم العمارات، وعندئذ عدلت أم كلثوم عن هذا المشروع!

ويستطيع ورثة أم كلثوم أن يجدوا فى أوراقها الخاصة رسوم عمارة من عدة طوابق وقد اختارت فيها أم كلثوم شقة فى الطابق العلوى على الناحية البحرية تطل على النيل، لأن أم كلثوم كانت تكره الحر كرهًا شديدًا.

أما البيت الذى كانت أم كلثوم تشعر أنه بيت تاريخى شهد كفاحها الأول فهو بيت صغير مبنى بالطوب النيئ، له عدة أبوب تطل على حوش، وكان وراء كل باب حجرة صغيرة طولها ثلاثة أمتار وعرضها متران، وفى واحدة من هذه الغرف ولدت أم كلثوم وعاشت مع أبيها الشيخ إبراهيم، وأمها فاطمة وأخيها خالد وأختها سيدة!

وفى هذه الغرفة عاشت أم كلثوم وكبرت وتعلمت الغناء، ومنها طافت كل قرى مصر فوق ظهر حمار تغنى فى الأفراح وتنشد الأناشيد فى الموالد والأعياد، ومن هذه الغرفة الصغيرة انطلقت إلى القاهرة بعد أن ذاع صيتها فى كل قرى مصر فى الوجه البحرى والصعيد!

ولهذا فإن أم كلثوم كانت تعتز بهذه الحجرة وبأرضها التى نامت عليها قبل أن تغتنى وتشترى المرتبة الأولى فى حياتها، وكان والدها يصر على أن تنام هى وأختها وأمها فوق المرتبة، وينام الأب وابنه خالد على الأرض، إلى أن استطاع الشيخ إبراهيم شراء المرتبة الثانية!

فرجل الأعمال السعودى الذى اشترى فيلا أم كلثوم لم يهدم الفيلا، وإنما فعل بعد ثلاثين سنة ما تمنت أم كلثوم أن تفعله سنة ١٩٥٢!

وكانت مصر كلها تقول: إن أم كلثوم بخيلة شحيحة، فى الوقت الذى كانت تدفع فى الخفاء مرتبات شهرية لعشرات الأسر، وتعتبر هذا سرًا من الأسرار الحربية التى لا يجوز إفشاؤها لأقرب المقربين لها، وكم من مهندسين وأطباء وقضاة ساعدتهم حتى وصلوا إلى مناصب مرموقة.

وحدث مرة أن جاءنى أحد أفراد فرقة أم كلثوم وقال لى:

- أنا أعرف أنك صديق لأم كلثوم، هل يرضيك أن أذهب إليها صباح اليوم وأقول لها إننى أريد أن أقترض منها خمس جنيهات، لأن ليس فى بيتى قرش واحد لإطعام زوجتى وأولادى، وإذا بأم كلثوم ترفض أن تقرضنى الخمسة جنيهات، مع أننى أعمل فى فرقتها منذ ١٥ سنة!

وهالنى موقف أم كلثوم المخزى واستنكرته، وبعد خروج الموسيقى طلبتها فى رقم تليفونها وكان ٨٠٨٠٨٠ وسألتها:

- هل صحيح أنك رفضت أن تقرضى فلانًا خمس جنيهات؟

قالت: نعم رفضت.

قلت: وهل فعلت ذلك بعد أن قال لك إن ليس فى بيته قرش واحد؟!

قالت: نعم.

سألتها معاتبًا: كيف تفعلين هذا يا أم كلثوم؟

قالت: لأننى امرأة بخيلة!

قلت: أنا أعرف العكس وأعرف أن أهم صفاتك الوفاء لمن عملوا معك!

قالت: أنت لا تعرفنى..

قلت: بل أعرفك تمامًا..

وضحكت أم كلثوم وقالت: سأقول لك الحقيقة بشرط ألا تقولها لمخلوق، إن مصلحتى أن يقول الناس عنى إننى بخيلة حتى يبتعد عنى النصابون والأفاقون، إننى علمت أن هذا الموسيقى كان يسهر فى بيت الموسيقار فريدالأطرش أمس، وخسر على مائدة القمار ثلاثمائة جنيه، فأردت أن أؤدبه ليعرف ذل لعب القمار، ورفضت أن أعطيه الخمس جنيهات، وبعد خروجه اتصلت بزوجته تليفونيًا وأخبرتها بأننى سأرسل لها مع سائقى خمسين جنيهًا، بشرط ألا تخبر زوجها، وتتركه يدوخ ويتعذب ويشحذ حتى يعرف مرارة عقاب لاعب القمار!

وكان الموسيقى يحكى لكل من يقابله قصة بخل أم كلثوم، وأم كلثوم فرحة وسعيدة بانتشار قصة بخلها، حتى إن بعض الناس أطلق عليها «أم إسرائيل لا أم كلثوم».

وكانت إذا سمعت عن فنانة مريضة أسرعت إليها ونقلتها إلى المستشفى ودفعت مصاريف علاجها وحذرتها أن تفتح فمها وتقول لإنسان ما فعلت، وأنذرتها بأنها إذا تكلمت فإنها ستقاطعها إلى الأبد!

وسكتت من تعلم وتكلمت من لم تعلم، وكانت أم كلثوم تقول: إن الذين يتحدثون عن بخلى يدافعون عنى، يبنون حولى سورًا عاليًا يصد النصابين والأفاقين والطامعين!

وكان أسعد يوم فى حياتها يوم أنعم عليها الملك فاروق بنيشان الكمال.

فقد كان النادى الأهلى بالجزيرة يقيم حفلة فى حديقة تغنى فيها أم كلثوم، وفوجئنا أثناء الحفلة بالملك فاروق يدخل الحفلة ويجلس على المائدة التى كان فيها أحمد حسنين باشا، رئيس النادى، وكنت فى ذلك الوقت عضوًا فى مجلس إدارته وغنت أم كلثوم أغنية «هلت ليالى القمر»، ولما انتهت الأغنية نادانى الملك وطلب منى أصعد إلى المسرح وأعلن.. أن الملك أنعم على أم كلثوم بوسام الكمال، وكانت الإذاعة تذيع الحفلة فسمع النبأ سكان مصر وسكان البلاد العربية، وكانت أم كلثوم سعيدة بهذا الوسام، فقد كانت أول مرة فى مصر ينعم فيها على فنان برتبة أو نيشان.

وبقدر سعادة الشعب بهذا الوسام فقد كانت تعاسة الأميرات وزوجات رؤساء الوزارات بأن ينعم الملك بوسام الكمال على مغنية.. فقد كان لا ينعم بهذا الوسام إلا على الأميرات وزوجات رؤساء الوزراء..

وقالت إحدى الأميرات أنا سأرد إلى الملك «النيشان بتاعه»، وقالت زوجة رئيس وزارة سابق: بكره سينعم فاروق بنيشان الكمال على الراقصة تحية كاريوكا!

وقالت زوجة رئيس وزارة آخر: يجب أن تجتمع كل حاملات وسام الملك لنكتب خطاب احتجاج إلى الملك.

وسمعت أم كلثوم أنباء الاحتجاجات وتحول فرحها إلى شقاء وبكت لهذه الإهانات التى تنهال فوق رأسها وترددها صالونات المجتمع الراقى.

وبينما كانت تبكى دق جرس التليفون، ورفعت السماعة، وسمعت صوتًا يقول لها:

- أنا صفية زغلول! مبروك يا أم كلثوم بنيشان الكمال، أنا يشرفنى يا أم كلثوم أنك تحملين نيشان الكمال الذى أحمله!

وقالت أم كلثوم والدموع تملأ عينيها: المكالمة التليفونية دى عندى أهم من نيشان الكمال.

وأحست أم كلثوم بالفخر بأن أعظم سيدة فى مصر، وهى أم المصريين وزوجة سعد زغلول، تقوم بهذه المبادرة النبيلة وسط الإهانات التى تسقط على رأسها!

وذهبت أم كلثوم إلى أم المصريين تشكرها، ومنذ ذلك اليوم أصبحت أم كلثوم تتردد باستمرار على صفية زغلول.

وكانت صفية زغلول تطرب لأغانيها الوطنية والدينية، خاصة لأغنيتها «اذكروا سعدًا» التى نظمها «أحمد رامى» بعد وفاة سعد وغنتها أم كلثوم!

ولم تكن أم كلثوم تعيش فى بيتها وحدها قبل أن تتزوج، بل كانت تعيش مع قبيلة، فى الطابق الأرضى كانت تقيم أمها فاطمة إلى أن توفيت، وأختها سيدة إلى أن انتقلت فى شقة مستقلة، وأخوها خالد إلى أن كبر أولاده واستأجر لهم شقة فى الزمالك، وكانت تقيم معها فى الطابق العلوى ابنة أختها سعدية وزوجها وجدان طاهر الذى كان وكيلًا للنيابة، وأصبح بعد ذلك مستشارًا.

وكانت متعة أم كلثوم فى أطفال سعدية، وعندما كان طفلها الأول «وجدى طاهر» مولودًا صغيرًا احتضنته أم كلثوم وغمرته بحبها، وأحاطته برعايتها، وإذا استيقظت من نومها طلبته، وإذا عادت إلى بيتها استدعته.. وكان وجدى الصغير شيئًا هامًا فى حياة أم كلثوم، فقد أبرز أمومتها وسيطر على اهتمامها.. وبعد سنوات قليلة بدأت تزهده ولم تعد تهتم به الاهتمام العجيب الذى كانت تحيطه به، فلاحظت ذلك وسألتها عن السبب فضحكت وقالت: «أصبحت له إرادة»! فقد عشقته أم كلثوم عندما كان بلا إرادة، تناديه فيلبى، وتأمره فيطيع، وتستدعيه فيحضر، وعندما بدأ يكبر فقدت أم كلثوم سيطرتها عليه فبدأت تفقد اهتمامها به.

ثم رزقت سعدية بمولود آخر أسمته «أحمد»، وإذا بأم كلثوم تجن بأحمد الصغير، وتعشقه، فإذا سافرت افتقدته، وإذا عادت كانت أول من تسأل عنه.. ثم تتكرر المأساة، ويتكرر العشق كلما رزقت سعدية بمولود جديد، وينتهى العشق عندما تصبح للمولود إرادة ويقول لها «لا»!

وقبل ذلك كانت تحس بهذه الأمومة مع أبناء شقيقها دسوقى ومحمد وسعدية وسكينة وممدوح ورفعت.. كانت تعاملهم كبناتها وأولادها، وكانت تفرح إذا رزق واحد منهم بولد وتصيح وهى تحدثنى وتقول: أصبح لى حفيد!، إياك أن تنشر الخبر حتى لا يسمونى «ست كلثوم بدل أم كلثوم!».

ولكن هناك شخصية مجهولة فى حياة أم كلثوم وهى سنية إسماعيل، وهى طفلة من طماى الزهايرة، قرية أم كلثوم، وكان أبوها ابن عم والد أم كلثوم، وجاءت الفلاحة الصغيرة إلى مصر وعمرها سبع سنوات، وما كادت أم كلثوم ترى الفلاحة الصغيرة حتى طلبت منها أن تبقى معها ولا تعود إلى قريتها أبدًا! وكانت أم كلثوم تقيم فى شقة فى عمارة بهلر بالزمالك، وأصبحت «سنية» أمينة أم كلثوم الخاصة وسكرتيرتها وكاتمة أسرارها، وكرست سنية حياتها لأم كلثوم ورفضت أن تتزوج، وأصبحت أم كلثوم تأتمنها على أموالها وجواهرها وأعطتها كل مفاتيح أدراجها التى تحوى أوراقها الخاصة، وكانت سنية هى التى ترد على كل تليفون يدق، واستطاعت بذكائها الفردى أن تعرف من الذى تريد أم كلثوم أن تكلمه، ومن الذى تقول له «الست نائمة» أو «الست خرجت»، وأصبحت سنية أهم شخصية فى حياة أم كلثوم، إذا اختلفت أم كلثوم مع أى من أقاربها كانت وسيطة الصلح، وإذا طلب أحد أقاربها شيئًا من أم كلثوم كانت سنية هى الرسول الوحيد، واستطعت سنية أن تفهم أم كلثوم جيدًا، تعرف متى تكون أم كلثوم مستعدة لإجابة أى طلب، ومتى تكون فى حالة نفسية ترفض فيها أى طلب، حتى من أعز إنسان لديها، كانت أم كلثوم وهى سعيدة مستعدة أن تصبح «حاتم الطائى»، فإذا كانت فى حالة نفسية سيئة أو فى حالة مرضية اسودت الدنيا فى عينيها وتحول الناس إلى خناجر وسكاكين!

وذات يوم شعرت أنها على فراش الموت، وكانت قد أجرت جراحة خطرة واستدعتنى وهى تفيق من المخدر وقالت لى:

- إننى أشعر أننى سأموت، وأريد أن أكتب وصية لسنية أعطيها ثلث ثروتى حسب الشرع الإسلامى.

ونجت أم كلثوم من الموت الذى كانت تتوقعه، وعاشت بعد ذلك ٣٣ سنة.. وذات يوم قالت لى أم كلثوم: احضر حالًا.. حدثت فى بيتى مصيبة! وتركت مكتبى وذهبت إليها فى بيتها، ووجدتها فى حالة ثورة غاضبة وقالت:

- حدثت مصيبة! إن سنية تحب موظفًا صغيرًا عند زوج سعدية، رأته وهو يحمل دوسيهات القضايا كل يوم إلى زوجها وجدان طاهر، وأحبته وقررت أن تتزوجه، وأنا كنت أتمنى أن تتزوج سنية من وكيل نيابة أو قاضٍ لا من هذا الموظف الصغير جدًا! وأنا أعتقد أنه لن يسعدها، إننى أحس أن سنية ابنتى، وأنا أتمنى أن تتزوج رجلاً يسعدها، وسوف أعيش قلقة طول حياتى وسنية فى رعاية رجل لا أثق به ولا أأتمنه عليها.

وقلت لها: إن من رأيى أن نترك سنية تختار الرجل الذى يعجبها، فهى راشدة وعاقلة، وربما تكون أتعس امرأة فى مصر إذا تزوجت ابن باشا، وربما تكون أسعد امرأة فى مصر وهى متزوجة هذا الموظف الصغير جدا!

قالت: المسألة ليست وظائف وإنما المسألة إننى واثقة بأن هذا الشاب لن يسعدها بل سوف يتعسها! إن تجربتى فى الحياة تعطينى الحق أن أتدخل لأن سنية لا تجارب لها وهذا أول رجل غريب تراه فى حياتها! وأنت تعرف أننى كنت سأعطى سنية ثلث ما أملك، ولكن لو تزوجت هذا الشاب فلن أعطيها مليمًا.

وطلبت منى أم كلثوم أن أستدعى سنية فى غرفة مجاورة وأتحدث معها على انفراد وأحاول إقناعها- واستدعيت سنية وقلت لها: إن أم كلثوم ثائرة على هذا الحب، أولًا لأنك أخفيتيه عنها، وهى تأتمنك على كل شىء فكيف لا تأتمنينها على سرك؟، قالت: إننى فضلت أن تخبرها سعدية بنت شقيقتها بذلك لأننى لم أشأ أن أصدمها!

قلت: إن أم كلثوم قالت لى إنها أوصت لك بثلث ثروتها، وإنك إذا تزوجت هذا الشاب سوف تحرمين من هذه الثروة الطائلة!

قالت سنية: أنا لا تهمنى الثروة.

قلت: هل تعرفين أنك تضحين بمليون جنيه؟

قالت: إننى أفضل عبدالحميد على المليون جنيه!

وكان عبدالحميد هو اسم الموظف الصغير الذى أحبته!

قلت لها: أنا أعرف أنك تحبين أم كلثوم، وهى الآن مريضة ومحتاجة إليك فكيف تتركينها فى هذه الظروف؟!

قالت سنية: لن أتركها سأبقى معها، وأنا مستعدة أن أقيم فى غرفة فى البدروم مع زوجى!

وعُدْتُ إلى أم كلثوم وقلت لها: إن سنية فضلت الموظف الصغير جدًا على المليون جنيه!

قالت أم كلثوم: كنت واثقة أنها ستفضل ذلك، ولكنى أعتقد أنها ستندم فى يوم من الأيام، إنها تعيش هنا «ست» وسوف تعيش مع هذا الشاب «خادمة»!

قلت لها: أنتِ تعرفين أن الحب هو قصر ملكى! العاشق يتصور أنه يعيش مع حبيبته فى الجنة حتى ولو كان فى الجحيم!

وسمع عبدالحميد برفض أم كلثوم فاستقال من وظيفته الحكومية ليعمل سائق سيارة أم كلثوم!

وقالت لى أم كلثوم: إن سنية ترغمنى أن أرى وجه عبدالحميد كل يوم بعد أن كنت لا أريد أن أرى وجهه أبدًا!

وخضعت أم كلثوم لإرادة أمينتها التى تحبها، وأقامت مع عبدالحميد فى بيت أم كلثوم، وقليلًا قليلًا بدأت تطمئن إلى عبدالحميد وتراه فى غير الصورة المشوهة التى رأتها فى أيامه الأولى.

وكانت أم كلثوم تشعر بأنها مدينة بحياتها لسنية، فقد حدث فى يوم من الأيام أن كانت أم كلثوم فى حالة نفسية سيئة، وقالت لسنية أريد أن أتمشى قليلًا على شاطئ النيل، وخرجت أم كلثوم من الفيلا، وأحست سنية بانقباض شديد، ووجدت سنية نفسها تجرى خلف أم كلثوم على شاطئ النيل، وأمسكت بأم كلثوم قبل أن تلقى بنفسها فى النيل.

وقالت لى أم كلثوم: لا أعرف كيف حدث هذا؟ إننى مؤمنة بالله، ولكن فى صباح هذا اليوم رأيت أن الدنيا كلها تسود فى وجهى، يئست من الحياة، فقدت عقلى فى لحظة يأس قاصمة، ووجدت نفسى أمام شاطئ النيل أحاول أن ألقى بنفسى فيه وإذا بيد غليظة تمسك بى وتجذبنى.. والتفت ورائى فزعة فوجدت سنية تحتضننى، وأفقت من جنونى وكانت هذه أول مرة فى حياتى أفكر فيها أن أنهى حياتى!

وفى سنة ١٩٥٤ تزوجت أم كلثوم الدكتور حسن الحفناوى، الأستاذ بكلية الطب، ورحبت بأن يحتفظ بأم أولاده ولا يطلقها، وأقام الدكتور الحفناوى معها فى فيلتها، وغادرت بنت أختها سعدية الفيلا مع زوجها وأولادها وانتقلت إلى شقة قريبة، وبقت سنية وحدها هى وزوجها يقيمان مع أم كلثوم.

وكان عبدالحميد يحس أنه جزء من عائلة أم كلثوم، فهو زوج ابنتها سنية! وكان الدكتور الحفناوى يعامله كسائق سيارة أم كلثوم.

وهنا بدأ التصادم، وطلب الدكتور الحفناوى طرد عبدالحميد ووافقت أم كلثوم على أن تستمر سنية فى خدمتها.

وقالت أم كلثوم لسنية: معلهش يا سنية! لازم عبدالحميد يمشى من البيت.

قالت سنية: إذا خرج عبدالحميد سأخرج معه.

ومشت سنية، ورفضت أن تأخذ شيئًا معها «لا فستان ولا مكافأة ولا مليم»، كل ما أخذته هو زوجها عبدالحميد!

وكانت قد عاشت مع أم كلثوم أكثر من ثلاثين عامًا، بينها ثلاث سنوات وهى متزوجة الدكتور الحفناوى.

وسمعت من أم كلثوم موقف سنية ورفضها أن تتخلى عن الرجل الذى أحبته، وكنت فى ذلك الوقت أحد صاحبى أخبار اليوم.. فاستدعيت عبدالحميد وعينته فى أخبار اليوم بنفس المرتب الذى كان يتقاضاه من أم كلثوم.

ومضت الأيام وأصبح عبدالحميد يتقاضى مرتبًا كبيرًا من أخبار اليوم.

وأرسلت أم كلثوم واستدعت قريبة لها اسمها «إحسان»، وهى فلاحة من طماى الزهايرة وعينتها أمينة خاصة لها، وبقت تخدمها من عام ١٩٥٧ إلى عام ١٩٧٨، وتفانت فى خدمتها والإخلاص لها، وبعد وفاة أم كلثوم اختارتها أميرة عربية من صديقات أم كلثوم وجعلتها وصيفة لها.

ودخلت السجن، ووضعونى تحت الحراسة، وصادروا أموالى فى البنك، وكان القرار أن أموت جوعًا، وسدوا علىّ جميع المساعى حتى لا يصلنى قرش واحد من أخى «على» الموجود فى لندن، كنت أعرف أن كثيرين من أصدقائى سوف يقبلون أن يقرضونى فى هذه المحنة، ولكننى رفضت أن أحرجهم لأننى أعرف أنهم كانوا يقبضون على كل من يمد يده لمساعدة مسجون سياسى، وفكرت أن ألجأ إلى أم كلثوم وقلت لها: إننى محتاج فورًا إلى مائتى جنيه، وأحب أن أنبهها أن هذا المبلغ سوف يُعرضها لتوضع أموالها كلها تحت الحراسة، وقلت لها إننى لن أتضايق إذا رفضت أن تدفع هذا المبلغ، وأن الظروف لا تسمح لها بأن تقرضنى هذا المبلغ، وقلت فى ختام رسالتى: إننى قد لا أستطيع أن أرد المبلغ قبل عشر سنوات، وقد لا أستطيع أن أرده لها أبدًا.

وأرسلت لى أم كلثوم خمسمائة جنيه، وقالت إنها مستعدة أن ترسل لى خمسة آلاف!

وحدث أثناء سجنى: أن جلست أم كلثوم مع الرئيس جمال عبدالناصر والمشير عبدالحكيم عامر والموسيقار محمد عبدالوهاب يتناولون العشاء على مائدة فى نادى الضباط فى مساء يوم ٢٣ يوليو سنة ١٩٦٥، وكان هذا عقب القبض علىّ بيومين، وقال عبدالناصر لعبدالوهاب طبعًا أنت زعلان علشان قبضت على مصطفى؟ وقال عبدالوهاب: أبدًا يا أفندم.. المسىء يلقى جزاءه.. والتفت عبدالناصر إلى أم كلثوم وسألها رأيها هامسًا فقالت: أعرف مصطفى طول حياته وأعرف وطنيته، وأعرف كيف دخل كل مليم فى أخبار اليوم، وأشاح عبدالناصر بوجهه فاستمرت تدافع عنى.

ثم سعت أم كلثوم عند عبدالناصر والمشير عامر للإفراج عنى وفشلت.

وذات يوم كنت فى زنزانتى فى ليمان طره، وجاء عسكرى يقول لى: الدكتور عبدالقادر إسماعيل كبير أطباء السجن يريدك فورًا.

وذهبت إليه، ونظر لى كبير الأطباء شزرًا وقال لى: اخلع الجاكتة! ودهشت من لهجة وغطرسة الأمر، فقد كان رجلًا وديعًا مؤدبًا، وتضايقت أنه يكلمنى بهذا الجفاء أمام المسجونين الآخرين الذين يملأون غرفة العيادة، وخلعت الجاكتة وإذا بكبير الأطباء يقول لى، بنفس اللهجة القاسية: ارقد على مائدة الكشف.

وخضعت ونمت على المائدة، ووجدت الطبيب يضع سماعته على جسمى العارى، وينحنى علىّ ويقول لى هامسًا: «أم كلثوم تقول لك: اسمعها يوم الخميس القادم، إنها ستغنى قصيدة فيها بيتان أو ثلاثة توجههم لك»..!

وفهمت عندئذ سر الشخط والنطر، فقد كان كبير الأطباء يريد أن يبلغنى الرسالة السرية!

وجلست فى زنزانتى أيامًا أنتظر قصيدة أم كلثوم والأبيات الثلاثة.. وفى مساء الخميس غنت أم كلثوم قصيدة الأطلال، وكانت إذاعة السجن تذيع الحفلة كلها بناء على إلحاح المسجونين.

وفجأة سمعت أم كلثوم تغنى:

أعطنى حريتى! أطلق يديا!

إننى أعطيت ما استبقيت شيئا!

آه من قيدك، أدمى معصمى!

لِمَ أبقيه؟ وما أبقى عليا؟

ما احتفاظى بعهود لم تصنها!

وإلى ما الأسر والدنيا لديا!

انتفضت فى فراشى وأنا أسمع هذه الأبيات، أحسست كأن أم كلثوم تغنى لى وحدى، أحسست أنها ترفع صوتى الخافت، تدوى بصوتى المحبوس، تقول ما كنت أتمنى أن أقوله للدنيا كلها!

أحسست أننى أتلقى من أم كلثوم رسالة تقتحم أسوار السجن، وتكسر قضبان الزنزانة وتحطم القيود والأغلال!

وقد بقى صوتها يدوّى فى أذنى وهى تغنى هذه الكلمات أيامًا طويلة، بغير إذاعة وبغير راديو وغير إسطوانة!

ولم تتوقف أم كلثوم عن المطالبة بالإفراج عنى.

وذات يوم صحبت أم كلثوم ابنتى رتيبة وابنتى صفية إلى بيت الرئيس «أنور السادات» وقابلت معهما السيدة «جيهان».

وتلقت وعدًا من السادات بأنه سيفرج عنى بعد المعركة مباشرة! وأنه يعرف أننى مظلوم! وأرسلت أم كلثوم فى السجن ما قاله السادات، ولم أصدق السادات يومها فقد كنا يئسنا يومها أنه سيحارب!

وتم عبور ٦ أكتوبر وانتصرت مصر، وأفرج عنى أنور السادات، وذهبت أشكر أم كلثوم فى بيتها وأعيد لها الخمسمائة جنيه ورفضت أن تسترد المبلغ وغضبت غضبًا شديدًا لإصرارى على رد الدين... وفشلت فى تسديد الدين!

وكنت أتحدث إليها كل يوم تقريبًا، وكانت أحيانًا تكلف أمينتها إحسان أن تطلبنى فى بيتى أو مكتبى ويستمر حديثنا ساعة كاملة!

وذات يوم طلبتنى أم كلثوم وقالت لى إنها تريد أن أعد لها وصية بشرط ألا يعرف بأمرها أحد، وألا اُطلع عليها أحدًا.

وقلت إننى يجب أن اُطلع عليها محامىَّ الأستاذ شوكت التونى، وسألتنى: هل تثق به؟ قلت: كما تثقين بى! قالت ضاحكة: أنا لا أثق بك! إننى أريد أن أوصى بثلث ما أملك، طبقًا للشريعة الإسلامية لسنية، ولأولاد أخى المرحوم خالد، ولإحسان التى تعمل «أمينة لى» وكل شرطى ألا يعرف إنسان بهذه الوصية، قلت: إن هذا يلزم أن توثقى الوصية فى الشهر العقارى، أو أن يجىء مندوب من الشهر العقارى إلى بيتك.

واجتمعت مع الأستاذ شوكت التونى وكتبنا الوصية، وإذا بأم كلثوم تمرض وتطلب أن تؤجل الوصية إلى أن تشفى.

وماتت أم كلثوم دون أن توقع الوصية، ولم تأخذ سنية ولا إحسان ولا أولاد وبنات أخيها خالد مليمًا واحدًا!

ومنذ أيام التقيت بسنية وسألتها هل هى نادمة أنها فضلت زوجها عبدالحميد على المليون جنيه؟

قالت: إن بناتى عندى «عفاف وعزة» أهم كثيرًا من المليون جنيه!

من كتاب «مسائل شخصية»

مقالات